(0)

لديّ مشكِلة مع كل حكمَة تُقال بصيغة تحاول إقناع الإنسان أن يتعظ بصفة موجودة في شيء آخر, مثل "كُن مثل حوض النعناع لا يبخل بأوراقه لأي عابر", "كن كالبحر يبلع الشر وينساه", "كن زي أي اشي, عشان أي اشي أحسن منك". أتعلم بأنّي تركت نبتة لي وسافرت لمدة شهر, هذه النبتة التي يجب أن أكون مثلها ولا أبخل بعبقي, عدت إليها لترحب بي بجفافها, أغصانها جافة عن آخرها! للأمانة, استمرّت محاولاتي في رعايتها يومياً لمدة تُذكَر, إلى حدّ الإيمان بالحديث مع الجمادات وإقناعها بأن تُزهر وتخلّصني ولم تنبت, بخلت بحياتها أساساً من أجل من سقاها واعتنى بها سنتين على الأقل.
ظللت مقتنعة بأنّ هذه الحكم تقال لأجل أن تُقال فقط, علماً بأن القوانين الفيزيائية والكيميائية الثابتة لا تتغير, لأنها ثابتة, فكما تحتاج النبتة لتحيا أموراً معينة, أحتاج أشياء أخرى كإنسان. حتى سمعت حكمة "كُن أنت", فكّرت كثيراً ليس لأكون ولا لأعرف كيف أكون, ولكن لأعرف كيف يستطيع الإنسان أن يعرف من هو!

(1)

في عيادة مساحتها لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص, يحاول الطفل أن يجلس على كرسي رماديّ فاتح وشكله يوحي بأنّه مريح, أكثر من الكرسي الذي أجلس عليه على الأقل, الطّفل توقّف عن المحاولة بعد ثانية ونصف حين جلس نصف جلسة على طرفه دون أي إيحاء بعدم الراحة, قمت من مكاني حملته ووضعته على الكرسي ليسند ظهره, يسند ظهره على كرسي الفحص والعلاج. الطّفل لا يتكلّم, لا يعبّر, لا يتحرك, لا يبتسم حتى, الطّفل غير طبيعيّ من ناحية طبية, لكنّه أصغر من أن يكون همّاً, الطّفل أكبر من أن يكون مهمَلاً بهذا الحجم الذي يوحي به شكله.
في العيادة التي لا تتسع مساحتها لنا, وبعد.أن تم العلاج في توقيت لا أحتاج فيه أي تغيير من أي نوع, اتّسع قلبِي بشكل مفاجئ ليمتلِئ بكل شيء, بالحب والحزن, بالارتباك, بشعور لا أعرفه أصلاً ولا أعرف ما يُسمّى حين ضربني الطفل الصغير بطرف يده وغطى وجهه, غطّى وجهه ضاحكاً بصوت وبحركة, بعد أن استطاعت أصواتنا العادية إلى حد مملّ أن تُثير طبلة أذنه التي لم تسمع من قبل أي صوت بهذا الوضوح.
اليوم, كشفت عن ذراعي في المكان الذي ضربني فيه الطفل فوجدت ابتسامة.

(2)

يقول حسين لبرّي في "الضوء الأزرق": لم لا تكتب؟
يردّ عليه: لأنّني أعيش يا رجل!

في هذه اللحظة علي أن أعارضه وأعترف بأنّني أعيش حين أكتب.

(3)

أنا شخص يعيش داخل عقله, بشكل مفرط, إلى الحدّ الذي يجعل أمّي تظنني جننت حين أبوح ببعض الأسئلة غير المتوقّعة في وقت لا يوحي بأيّ منها, أسألها لتحدد لي أكثر شخص  تقضي معه وقتاً وأنا أعرف من هو لأشاركها استغرابي من كوننا بشر متوحّدون على نحو غريب, بالنسبة لي ففي روتين الدوام الدراسي أتعامل مع أشخاص عابرون, علاقتي معهم تنتهي بانتهاء موعد الزيارة الطبية, وبعدها تنحصر العلاقة بتخت وكتب وأجهزة إلكترونية, نحن في هذه الفترة من عمر الكوكب نتحول كما تقول صديقتي إلى كائنات مملة. وهذا شيء والله يدعو للقلق.

(4)

هذا العالم ممتلئ عن آخره بالمرايا, وأنا لم أعد أرى وجهي.

كان يا ما كان، مش زمان كتير، قبل سنة تقريباً، نجحت في الباطني :D
*طيب؟ وات ايفر؟ شو بهمني؟ مش وقت أفراح!
*بشويش عليّ، خليني أفهمك!

الباطني هو عبارة عن روتيشن 12 ساعة دراسية، كل ساعة دراسية حقها 150 دينار يعني هيك بالمجمل بس 1800 دينار *من طرف الجيبة*، بندرسها على مدى 3 أشهر بنداومهم بالمستشفيات وبتم تقييمنا من خلال امتحان عملي وامتحان نظري في نهاية السنة، واللي ما بنجح ببساطة بعيد ال3 أشهر وبدفع كمان مرة *تباً كبيرة جداً*، آه وتجدر الإشارة بإنو هاي المادة بحمد الله أكبر من الأراضي اللي سيطرت عليها داعش، وتحتاج انو الواحد يكون نَحِّيت وصبور وبحبها، والحمدلله أنا لا رزقت حبها ولا عندي صبر عاللي ما بحبه. بس وين مربط الفرس؟ انو كان عندي اشيين بستعين فيهم على ثقلة دم المادة ودراستها الإجبارية: أولهم الدعاء، وثانيهم تدوينة! تدوينة o.O؟ آه، تدوينة "يوميات الباطنة"، هاي التدوينة قرأتها في كل مرة وصل معي الاكتئاب والضيق إلى حد التساؤل عن أكثر الأمور بداهة أو تعقيداً، زي: ليش أنا هون بالتحديد؟ ليش أدرس كل هاد والجو حلو برا؟ كيف ممكن أتفاعل مع سماجة ما أقرأ؟ كيف أحبك يا بنت اللذينا؟ كيف ممكن تحلّي عني بأيسر السبل وأقل الخسائر؟ كيف، ساعدني يا رب؟

قرأتها خلال الروتيشن وقبل التقييم وأيام التحضير للامتحان، قرأتها أكتر من ستين أو سبعين مرة. كانت عبارة عن مخدر مؤقت لحتى انتهاء نوبة الصراع الوجودي أو حتى مواساة وتضامن مع حالتنا الإنسانية بانو والله في ناس بتعاني زينا وهيهم عايشين، حتى في ناس بتعاني أكتر وعادي هيها عدت، عادي جداً.
المهم، كان في كتير تفاصيل مش بصدد ذكرها بس النتيجة إني نجحت بالباطني، الباطني السمج! أكيد أحمد جمال سعدالدين لما كتب التدوينة واللي هي عبارة عن توثيق لجزء من حياة طالب طب بائس وتفاصيل حياتية عادية بطريقة غير عادية ما كان بعرف انو رح يكون إلها الفضل بعد ربنا ودعوات أمي في نجاحي.

اللي بدي أوصلله من كل اللتّ والعجن السابق بإنو لو كنت ب"تحب" تكتب اكتب، دوَّن، وانشر، انشر لأكبر عدد من الناس! آه، مش عشان يصير اسمك الكاتب ولا الناشط ولا المدون، بس عشان في شخص ما في مكان ما، ما بتعرفه، كلمتك رح يكون إلها أثر بحياته. أنا من ضمن  الناس اللي مرت بفترة زمنية طويلة من الشعور بعدم الجدوى، عدم الجدوى من نشر ما أكتب، الشعور بانو شو خص الناس تعرف شو صار أو شو بفكر، أو شو بدهم يستفيدوا أو فوبيا الإخلاص والنية أو أو أو! ما كنت بعيد على نفسي قصتي مع التدوينة وانو لو فكر كاتبها بنفس الطريقة ما كان عندي فسحة الأمل اللي خلقها في كل مرة كنت بقرأها فيها.

بعد صراع طويل جداً ونقاشات مع أصدقاء مختلفين عن هذا الأمر، فأنا قررت أنني سأظل أكتب بأكبر قدر من الشغف وسأنشر بذات الشعور آملة بانو يكون اللي بكتبه يستحق ويصنع أثراً.
وتوصية من القلب، بإنو يا أصدقاء، مهما حصل ومهما كان اليأس أقرب للنفس، احترفوا نشر القيم والجمال في عالم احترف الشر والبشاعة، اتساع بقعة الجمال على هذا الكوكب مهمتنا احنا :)

2015/02/02

قصاصة

أحياناً, يعني فقط حين تسنح لي الفرصة بالتّفكير, أتساءَل عن مَدى رشاقة حرف أُنتِجَ بضغطة زر أو حتى في حديث الأجهزة لمسة على شاشة, اصطفاف لسطور الكلام بحروفٍ تملك ذاك الخطّ المنتظم, مرتّباً لا يميل عن استقامته الجادّة, ليس بامكانك زيادة انبعاج حرفٍ إلى أي اتجاه أو حتى إعطائه فرصة للتعبير عن نفسه!
أفكّر لو ظل الإنسان على نفس الوتيرة يخطو بتسارع يفوق تسارع غزال يهرب من موتٍ محقق بين أنياب نمر بري, يخطو في تقدمه التكنولوجي أو بالأحرى تراجع مهاراته التي يمارسها بلحمه البشري, هل سينتهي به الأمر ألا يفهم ورقة وضعت على باب بيته أرسلت عبر البريد من قرية لم تصلها الطابعة بعد, تنبِئه بأنّ عزيزاً قد فارق الحياة؟ ليس مثيراً للشفقة بقدر بؤس خبراء الجرافولوجي (Graphology) حين يدركون أن سلالة آدم قد مُسِخت روبوتات وأنّ كل ما يمتلكونه من الخبرة في تحليل الخطوط أصبحت لا تعني شيئاً البتة, على افتراض أنّها تعني الآن. تدري لمَ قلت مُسِخَت؟ لأنّ ما يميّزك هو الرّوح يا سيدي, وأيّ روحٍ تلك التي تنبعث من حرف يشبه الملايين مما نراه في كتبنا ومناهجنا وأجهزتنا ووسائل تواصلنا, بنفس الشكل الممل, الأشد مللاً على الإطلاق, دون أن أميّز بأن الملحوظة الصغيرة تلك كتبها عمر مستعجلاً بخطٍ لا يُصنّف إلا ضمن التلوث البصري أم أمّي متجلّية في ساعة السّحر.
مفلسف؟ طيب دعني أخبرك, مرّة كنت أتصفّح تدوينات لشخص لم ألتقيه من قبل, طريقة الكتابة تعجبني لكنّي لم أعهد أن شعوري قد تغيّر عند منشور ما حتى وجدت من بين الصور التي نشرها صورة تحتوي على فقرة بخطّه, هذه الأُلفة التي تُقدِّم لك الإنسان بعد أن ترى خطّه مختلفة يا أخي. طيب تخيّل مثلاً أنّك دخلت غرفتك ووجدت قصاصة ورق كُتب لك عليها "يا مغفّل لا تنسَ غسل أطباقك بعد الانتهاء من الغداء" بخطٍ تعرفه وتعرف صاحبه, وفي المقابل بعث لك زميلك نفسه نفس العبارة برسالة نصية على هاتفك الذي لا يحتوي على رقمه بعد, هل تقابلها بنفس ردة الفعل؟ بالنسبة لي فربما بعد الرسالة النصية أتصل فيه وأخبره بأنني مشغول وأن لدي امتحان بعد يومين, قضيت نصف اليوم الأول أكتب فيه عن الخط ولم يتبقَ لدي وقت لغسل الأطباق, وفي الختام ليذكّرني بهويته إذا لم أتبيّنها من خلال الصوت, أمّا القصاصة الورقية فربما تجعلني أضع الأطباق في غرفته ليعرف بأنَ الموضوع لا يحلّ بدراما الخطّ والقصاصات المرمية من تحت الباب في غيابي.
أحمدُ الله بأنّني من أولئك الناس الذين لا تجد المعلومة مكاناً في رأسهم إلا إذا كُتبت, مما يعني أنني من الممكن أن أكون ضمن آخر قبيلة تُمسخ إلى روبوتات :D

العاصفة قادمة, تدفّوا منيح, وساعدوا الناس ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً, ابتسموا كتير, ابعتوا رسائل بخط ايدكم وادعولنا, نحن القوم الذين يعجِزهم سؤال: "ليش ما في عندكم عطلة بين الفصلين؟"

5/1/2015

بعد بحث بسيط على عمنا جوجل واستخدام بعض العمليات الحسابية البسيطة, نجد بأن متوسط عدد النسخ التي كانت تنشرها صحيفة شارلي ايبدو Charlie Hebdo هو 45000 نسخة أسبوعياً, يعني تقريباً نصف عدد النسخ التي تطبعها جريدة القدس يومياً, وبعدد يساوي ما نسبته 7% من مجموع النسخ التي تطبعها جريدة القدس أسبوعياً! جريدة القدس التي تُنشر في دولة لا يوجد لها اسم على الخارطة, مقارنة بشارلي التي تُنشر في فرنسا, بعدد سكان فرنسا الذين يفوقون عدد سكان فلسطين الفلسطينيين ب 60 مليون نسمة! يعني إذا كان هناك شخص واحد من 60 فلسطيني تصله جريدة القدس يومياً يعني تصله سبعة أيام في الأسبوع, فإن شخص واحد فقط من 1400 فرنسي تصله جريدة شارلي البائسة يوم في الأسبوع! طيب بالمقارنة مع الصحف الفرنسية حتى, شارلي ليست ضمن العشر الأولى من حيث عدد النسخ والنشر في فرنسا, وفي تصنيف موقع allyoucanread ليست ضمن العشرين الأكثر شهرة من الصحف والمواقع الاخبارية الفرنسية.

النتيجة بأن شارلي هذه, تبدُو مثل طفل صغير غبي إلى حدٍ ما, رغم مكره, وُلد في عائلة مليئة بالأطفال الأذكياء, لا أحد ينظر إليه, تبدأ الغيرة تشتعل في صدره فيقرر تمزيق ورق الجدارن الذي كلّف والدته المجدّة أشهر من العمل في محل لبيع العطور, للفت الانتباه بدلاً من هذا الشقاء الذي يعيش فيه منزوياً, يمزقه أو يمزقه أخوه الحقود ويلقي باللائمة عليه, لا فرق,  لتلتفت إليه أمه وتصيح فيه وتضربه حتى يفقد بعض أسنانه, فتأتي الشرطة وتعتقل والدته وتكتب عن الحادثة وتنشر عنها التقارير أشهر الصحف والقنوات الإخبارية. الحاصل بأن هذا الطفل تتبناه ميركل والملكة رانيا ونتنياهو وأبو مازن وأوغلو حتى ويغدقون عليه النعم والخيرات والمسرات كطفلهم المدلل الوحيد.

أراهن بأنّ مدير تحرير الصحيفة الذي قُتل ضمن الهجوم القريب لم يكن يجرؤ في سابع أحلامه حتى أن يفكر ببيع هذا العدد من النسخ بهذا العدد من اللغات من عدده الأسبوعي لصحيفته البائسة, التي توقفت عن النشر لمدة عشر أعوام في السابق والتي تعرضت لهجوم قبل أربع سنوات, المهمّ أنه وهو على حافة انتشائه أراه في عالم موازٍ يضع كفه على رزمة من النسخ وكفه الأخرى تحكّ ذقنه مفكّراً بالفرنسية طبعاً: "لو إنّي جبت ثلاث أربعة من الشباب, دفعتلهم كم يورو, وخليتهم يسطوا على المقرّ, يحرقوه, يشلّوا اللي فيه من زمان, من زمان أوي, كان صرت هلا بمكان تاني خالص, غير هالتابوت فيما يستمتع بشهرة صحيفتي آخرون!"

وأيقنتُ يا صديقِي, رُغم الخوف البَادي أو المخفيّ من عواقب أمورنا, أن الحياة هذه لا تُعاش إلا إذا كانت رَهنَ المخاطرة, رهن الجنون الذي لا يحتَمِل أكوام المنطق المكرور في رأسي, المكرور لدرجة الملل منذ سنين, فيرتد حكمة تدور في رأسك الطائش ولا تخرج إلا على شكل "وما لذة العيش إلا للمجانين"
إنّ أياماً ثلاث وإن كانت على هوامش أرقامنا تؤول إلى الصفر, وإن كانت لا تعني شيئاً بتعداد التواريخ لكنّها كفيلة بمنحنا حياة تامّة, بالشكل الفردوسيّ الذي نتمنّاه.دعنِي أتجاوزُ التفاصيل كلها إلى تفاصيل تفاصيلها وإن كنت لن أنتهي إذا فعلت, ومن الحديث عنها إلى الحديث بها ومنها وفيها!
هل تعرف كيف يكون الخوف لذيذاً؟ والحزن الشائك على مفترق حياتنا المؤدية حتماً إلى ما هو مجهول جميلاً؟ بالضبط كحبي لنشاز صوتك المنطلق دون ترتيب ولا مصادفة وأنت تغني "ونقع ونقوم, ولا يستسلم قلبي المهزوم, طول ما هو قلبك في السكة معاه" في ذاك الشارع البارد الطويل الذي لا يعرفنا, ولن يصادفنا ربما مرة أخرى, نشاز أحبه, دون أن أحب فيه شيئاً.
طيب, أتعرف كيف تُهندِمُ الأيام مشاعرنا؟ أظنّك لن تجيب بلا فأنتَ تظنَ أنّك تعرف, ولن تجيب بنعم لأنك تعرف أنك ستنتقص الإجابة, لن تصمت لو وجّهت لك السؤال مؤنّباً لأنّك صادق ولن تتناسى لو وجّهته محبّاً لأنك مخلص, لكنّي سأخبرك دون استفاضة أنّي صدقاً لا أعرف الإجابة لو كنتُ مجيباً, لا أعرف كيفَ تُصاغ ملامحُ أرواحنا هذه, كيف تتجمّل, كيف تختبِئ في أسرارها فتفضحها, وتلتمسُ الحبّ فتنال! لكنّ الذي أعرفه يقيناً أن الذي تجمّعه يد الله لا تُفرّقه الجغرافيا.
ويدُ الله يا صديقي, قد مسحت على قلبي فأحببتُ القدس أمّاً أنجبت لي إخوة لا عدد لهم, لا يتكررون, لا يتكررون بالمعنى الحرفي. دعني أكون صريحاً, ليس للمرة الأولى ولا الأخيرة, حين سأجلس يوماً قانطاً من دنياي وقد صفعتني مراراً ببرود سأذكّر نفسي بأن الله كريم, كريم إلى الحد الذي جعل لي عائلة وراء الحدود صنعهم لي على عينه, وأصدقاء يحملون الهمّ ذاته لا يعترفون بالمسافة, يغرقُ الليل بهمّهم ولا يعرفون يأساً, ورفيق سفر هو رفيق حياة, حياة حتى لو جارت عليّ فهو لا يجور, يعرف كيف يكون مملّاً مستفزّاً عجيباً, لكنّه لا يعرف كيف ينزع البياض عن قلبه.
أعرف أنّي منذ فترة لم أكتب, لم أفعل هذه الأمور التي تجعلني أنا, لكنّ الأيام هذه حريٌّ بها أن تُخلّد, تُخلّد لأسباب معلنة كأن أخبر "يوسف" بأنّه قد نَال, نَال حظّاً عظيماً, وأنا التي أعرف صديقتي, ورزقاً واجبَ الشُّكر, دون مبالغة, دون أدنى مبالغة حتى, وحديث كهذا لست أُحبّ أن يذاع, لكنّ مثله وأكثر منه يجب أن يُسرّ إليه, فليبارك الله درباً جمعكما, وليملأ أرصفته أزاهير حبّ خالدة, تنبثق من تربتها ليبتسم الثغرين ولتذكركما بنهاية الطريق الذي لا ينتهي في جنان الله.
وأسباب خفيّة, ستنبعث من رماد القلب يوماً ما, نصّاً أو صورة, أو ربّما تذكرة سفرٍ لا تحطّ في أرض تعرفها أو أعرفها, تعلو الجناحان وأطير. أطيرُ إلى الله شكراً على فضله, أطير إلى الله الذي يحبني ويتقرب إلي بمنحي إياكم.

2014/12/05

مزلاج

(1)
في مساق الطب الشرعي, ذكرت صديقتي قصّة عجوز من بلدتها كانت مصابة بالزهايمر, كانت تخرج من بيتها ولا تعرف كيفَ تعود, في يومٍ ما حين ذهبوا للبحث عنها وجدوها متوفية على طريق مدينة ما, لم تُثِر القصة شعوراً بالبؤس مع أن الموضوع مؤسف للغاية, لكننا مشبعين بقصص أكثر إثارة وإجراميّة على طول هذا المساق, الأمر الذي يجعل السيناريو العادي للأحداث غير العادية أمراً لا يستحق الدهشة. المهم أنّ الحديث بيني وبين زميل ثانٍ أخذ منحىً آخر وهو تأمل نواياها الخفيّة غير المعلنة التي كانت تراودها قبل الخروج, مع علمنا بأنها مصابة بالزهايمر هذا يعني أن النوايا لم تكن موجودة ربما وأنّ خروجها هو مجرّد خروج عاديّ إلى حديقة المنزل أو بيت الجيران, هذه النوايا المتخيَّلة المنطوية على فكرة السير حد التعب, التعب المفضي للموت, السير نحو المجهول حتى لو استحق سبرُ أغواره حياتَها, الموت بطريقة مدهشة, عاديّة لطالب طب لا يعرِف العجوز وسمع ألف قصة مثيرة أكثر من قصتها, مفزعَة لشخص يحبّها, الموت بطريقة مفاجئة أكثر من الموت بملل وهدوء وتذمّر من حولها كونها عاشت بما يكفي, بما يزيد عن كفاية ذاكرتها وتحمّلهم.
الآن, وبعد منتصف الليل, أجلس على حافة سريري, رقبتي منحنية إلى الأمام قليلاً, تؤلمني بعد أسبوع مكثّف من المرض ودوام العظام, أفكّر: أيّ معرِفة تلك التي تستحقّ الموت لأجلها؟

(2)
تسألني صديقة عن أمور عقائدية, يعني أنها أساسية في ديننا, ضرورية للغاية, كونها ضرورية يعني بالنسبة لي أمرين: البحث فيها بعناية, والتساؤل عنها باستمرار! يعجبني النزوع للنقاش إذا كان الدافع نحو المعرفة هو الاغتمام بالجهل, لأنّ المجيب لو عجز عن الإتيان بالدليل والإجابة الوافية, فإن ذلك لن يجنّب السائل البحث المتكرر حتى الوصول إلى إجابة, التي هي راحته وهدفه وغايته. لكنّ النقاش ذاته حين يكون من أجل استغلال ضعف إجابة المجيب أو جهله, وجعلها فرصة سانحة من أجل إظهار احتقاره لمعتقد المجيب والذي هو ذاته من المفترض أن يكون معتقد السائل لكنّه يشعر بالزهوّ كون دينه الذي ينكره عاجزاً, ويشعر باحتقار الذات دون إظهار ذلك كون دين غيره يبدو جميلاً وطاهراً وخلّاباً دون أن يحاول أصلاً فهم دينه أو البحث لمرة واحدة عن إجابة. هذا السؤال من هذا السائل بالتحديد هو أمر مثير للقرف, آه القرف.
(الاحترام لكل الديانات, المجد للباحثين عن الحقيقة, والشسمو لكل جاهل مريض معجب بغيره ومحتقر لذاته دون البحث الجادّ ومحاولة المعرفة)

(3)
الفترة الماضية اختفى صوتي كليّاً, الصوت هذا الذي لا يتعدّى كونه مجرّد ثرثرة أو إزعاج زائد عن الحاجة وسط فوضى الكوكب الذي لا يكفّ عن الحديث الذي لا معنى له ووسيلة للتّواصُل مع سكانه المستفزّين نوعاً ما, الصوت الذي لم أُدرِك أنّ وجوده عملية معقّدة خارجة عن النص وليست أمراً عاديّاً مفترضَ الوجود, في نفس الوقت كنّا نعمل أنا وزميلتي على حالة تعانِي منذ الولادة من مشاكل في الأعصاب الأمر الذي يؤثر على مشيها, لم تمشِ قط بطريقة سليمة, مرة بقدمين معوجّين, مرّة بمساعدة جهاز وفي النهاية على كرسي, لم تمشِ يوماً مثل كلّ من يدبّ برجليه على الأرض ماشياً مختالاً بقدرته, أفكّر وبعيداً عن شخصنة الأمور: هل تُحِسّ هذه الفتاة بفقدان ما لم تملك كما أشعر الآن بفقدان صوتي الذي اعتدت عليه؟ وماذا لو امتَلَكَتْ قدرةً "عاديّةً" على المشي بعد كل هذا –الأمر الذي يعتبر مستحيلاً طبياً- فيما أنا فقدت صوتي إلى الأبد؟
التخيّل أمر مرعب.

2014/11/19

البتول

القدسُ حُبلى بِالفداءِ
وبالحديدْ,
وحَبلُها السُّرِّيُّ
يَحشوهُ الوليدْ
ألفَ رصاصةٍ,
بالعزِّ تُرجِعُ عِزَّهَا
مِنْ صُلبِهِ
وَفِطَامُهُ رَشَّاشهُ
وَفِي يَديهِ
مِن مَخاضهِ
سُنبلةْ,
وَحينَ تُجدِب سَاعةً
فِي القُدسِ
يَزرَعُ فِي الضّلوعِ
قُنْبُلَةْ!

وفي الزّقاقْ
ضجّ الصغيرْ
وراح يهدر بالوعيدْ,
فتنَاثرت أشلاؤهُ مِن حَولهِ
حبّاتِ زَيتونٍ أثيرْ,
وتَزَاحمت
بين الرفاقْ,
في النعشِ
في نَفَسٍ أخيرْ,
وصَارَ يصرُخُ فِي المدى:
أنا ابنُ قلبِكِ
أنا نفْحُ عِطرِكِ
تحفظينَ اللَّحنَ فِي لُغَتِي
وَفِي سِرّي العَتِيدْ,
أمِّي, فدَاكِ
أنَا قَد وُلدتُ لِكي أراكِ
وحَبليَ السُّرِّيُّ
هاكِ
ممدُودٌ إليكِ
ومنكِ
فاملأيه من جديدْ
ثأراً مقدّسْ,
واشرَبي الزّيتَ المُعتّقَ
مِن دَمِي,
تحبلينَ المَجدَ حُرّاً من ثراكِ.

فانحنت كالشامخاتْ
تسقيهِ دَمعاً مِن فُراتْ
بالشوقِ والحبِّ الكبيرْ
وتُمَسِّدُ الكَفَّ
والوَجهَ المُنيرْ
وتَلثُمُ مِنهُ ناصيةً
وتَشربُ الزّيتَ المريرْ,
حتّى رَأتْ فِي ثَغرهِ
حبّاتِ قَمحٍ
كَانَ يخزِنُها لمثواهُ الأخيرْ,
فتَحسّسَت مِن بطنها
حِينَ ابتسمْ
غُصنَاً تَورّقَ
مِن عَبيرْ!

وصَارت كلَّ يَومٍ بعدَها
تحبُلُ بالحقولْ
وَيكبُر بَطنُها المُخضَرُّ
قمحاً
فِي دَقَائِقَ مِن سُهُولْ
فتَوافَدوا من غَيِّهمْ
مِن سَكْرَةِ المَوتِ المُشِينْ
كُلُّ أشكالِ الفُحُولْ
وتَنازَعُوا مِن حَولهَا
بادّعاءٍ للأبوّةْ
والخُصوبةِ والفُتوّةْ
كُلٌّ يبرِّرُ وَصْلَهُ
يدّعِي حَقَّ الوُصُولْ!

وَعَلا الصياحُ المُرُّ
بالذَنبِ الذِي لَم يُقترَفْ,
وهيَ التِي فِي سِرِّهَا
قالت بِصمتٍ مُطبِقٍ
هَذَا عُواءٌ ظَالمٌ
هَذَا خَرَفْ,
حَتّى تَسلّلَ بَينهُمْ
صَوتٌ تَعَالَى كالسُّعَارْ
قَد أَسكَتَ الجَمعَ الغفِيرْ
ورَاحَ يخطبُ فِي الشَّرفْ:
في البدايةْ,
يَا سادةَ القَومِ الكِبارْ
بَطنُها الخَصْبُ الحَقيرْ
هُو سرُّ أسرارِ الغِوايَةْ
وهُو الخطيئةُ والدَمَارْ
فلتعترفْ
كلكم أشرافُها
وهي البغيّْ
تنكِر باحتيالْ
فلها المغبّة في النهايةْ
نارٌ سعيرْ
فصفقوا من حولهِ
كالجمعِ الحكيمْ
وهم الحميرْ
وبدا لهم أنَّ الذي
قد أنطَقه
كَانَ تفصِيلَ الحِكايةْ

في وحدةِ الليل البهيم
في كهفٍ قصيٍّ
عن كُل إنسٍ أو أنامْ
قد جالسَت حزنَاً زآمْ
وصامتْ دهرَها
عن كلِّ أصنافِ الكلامْ
وكانَ الرّحم يكبُرُ كلَ يومْ
في الظّلامْ
بالنّورِ يبرقُ من جبينِ القنبلَةْ
فتحبُل سنبلةْ
وزيتوناً
وترباً
ومعولَهْ
فيرتدّ الصدى من جوفها:
القُدس حدُّ المِقصلَةْ
القُدس زَرَدُ السلسلَةْ
وَهِي التِي قد بُورِكَتْ
فَهي لَفظَ البسملةْ

حتى إذا جاءَ المخاضْ
عَسُرَ السكوتْ
ودعَتْ ونَادَتْ فِي خفُوتْ:
أنَا قدسُ هذي الأرض
يعرفُونَ الوسمَ من شفَتي
ومن لغتي
لكنني بالإثمِ مرميّةْ
وأنَا البتُولْ
يا ليتني قد كنت اليوم منسيّةْ

وانتهى فصلُ المرارةِ والتّعبْ
حين ردّت كُل الأزقَةِ بالغَضَب:
القدسُ حُرّةُ معتقَةْ
القدسُ حبلُ المشنقةْ
القدس هذه يا فتى
للفحولِ الكاذبينْ
للطغاة الظالمينْ
لصوته المسعورِ
لوجهه المقبورِ
للعرايا والبغايا والشرور
محرقةْ.

....
نور عليان / 19-11-2014