وأيقنتُ يا صديقِي, رُغم الخوف البَادي أو المخفيّ من عواقب أمورنا, أن الحياة هذه لا تُعاش إلا إذا كانت رَهنَ المخاطرة, رهن الجنون الذي لا يحتَمِل أكوام المنطق المكرور في رأسي, المكرور لدرجة الملل منذ سنين, فيرتد حكمة تدور في رأسك الطائش ولا تخرج إلا على شكل "وما لذة العيش إلا للمجانين"
إنّ أياماً ثلاث وإن كانت على هوامش أرقامنا تؤول إلى الصفر, وإن كانت لا تعني شيئاً بتعداد التواريخ لكنّها كفيلة بمنحنا حياة تامّة, بالشكل الفردوسيّ الذي نتمنّاه.دعنِي أتجاوزُ التفاصيل كلها إلى تفاصيل تفاصيلها وإن كنت لن أنتهي إذا فعلت, ومن الحديث عنها إلى الحديث بها ومنها وفيها!
هل تعرف كيف يكون الخوف لذيذاً؟ والحزن الشائك على مفترق حياتنا المؤدية حتماً إلى ما هو مجهول جميلاً؟ بالضبط كحبي لنشاز صوتك المنطلق دون ترتيب ولا مصادفة وأنت تغني "ونقع ونقوم, ولا يستسلم قلبي المهزوم, طول ما هو قلبك في السكة معاه" في ذاك الشارع البارد الطويل الذي لا يعرفنا, ولن يصادفنا ربما مرة أخرى, نشاز أحبه, دون أن أحب فيه شيئاً.
طيب, أتعرف كيف تُهندِمُ الأيام مشاعرنا؟ أظنّك لن تجيب بلا فأنتَ تظنَ أنّك تعرف, ولن تجيب بنعم لأنك تعرف أنك ستنتقص الإجابة, لن تصمت لو وجّهت لك السؤال مؤنّباً لأنّك صادق ولن تتناسى لو وجّهته محبّاً لأنك مخلص, لكنّي سأخبرك دون استفاضة أنّي صدقاً لا أعرف الإجابة لو كنتُ مجيباً, لا أعرف كيفَ تُصاغ ملامحُ أرواحنا هذه, كيف تتجمّل, كيف تختبِئ في أسرارها فتفضحها, وتلتمسُ الحبّ فتنال! لكنّ الذي أعرفه يقيناً أن الذي تجمّعه يد الله لا تُفرّقه الجغرافيا.
ويدُ الله يا صديقي, قد مسحت على قلبي فأحببتُ القدس أمّاً أنجبت لي إخوة لا عدد لهم, لا يتكررون, لا يتكررون بالمعنى الحرفي. دعني أكون صريحاً, ليس للمرة الأولى ولا الأخيرة, حين سأجلس يوماً قانطاً من دنياي وقد صفعتني مراراً ببرود سأذكّر نفسي بأن الله كريم, كريم إلى الحد الذي جعل لي عائلة وراء الحدود صنعهم لي على عينه, وأصدقاء يحملون الهمّ ذاته لا يعترفون بالمسافة, يغرقُ الليل بهمّهم ولا يعرفون يأساً, ورفيق سفر هو رفيق حياة, حياة حتى لو جارت عليّ فهو لا يجور, يعرف كيف يكون مملّاً مستفزّاً عجيباً, لكنّه لا يعرف كيف ينزع البياض عن قلبه.
أعرف أنّي منذ فترة لم أكتب, لم أفعل هذه الأمور التي تجعلني أنا, لكنّ الأيام هذه حريٌّ بها أن تُخلّد, تُخلّد لأسباب معلنة كأن أخبر "يوسف" بأنّه قد نَال, نَال حظّاً عظيماً, وأنا التي أعرف صديقتي, ورزقاً واجبَ الشُّكر, دون مبالغة, دون أدنى مبالغة حتى, وحديث كهذا لست أُحبّ أن يذاع, لكنّ مثله وأكثر منه يجب أن يُسرّ إليه, فليبارك الله درباً جمعكما, وليملأ أرصفته أزاهير حبّ خالدة, تنبثق من تربتها ليبتسم الثغرين ولتذكركما بنهاية الطريق الذي لا ينتهي في جنان الله.
وأسباب خفيّة, ستنبعث من رماد القلب يوماً ما, نصّاً أو صورة, أو ربّما تذكرة سفرٍ لا تحطّ في أرض تعرفها أو أعرفها, تعلو الجناحان وأطير. أطيرُ إلى الله شكراً على فضله, أطير إلى الله الذي يحبني ويتقرب إلي بمنحي إياكم.