2014/12/05

مزلاج

(1)
في مساق الطب الشرعي, ذكرت صديقتي قصّة عجوز من بلدتها كانت مصابة بالزهايمر, كانت تخرج من بيتها ولا تعرف كيفَ تعود, في يومٍ ما حين ذهبوا للبحث عنها وجدوها متوفية على طريق مدينة ما, لم تُثِر القصة شعوراً بالبؤس مع أن الموضوع مؤسف للغاية, لكننا مشبعين بقصص أكثر إثارة وإجراميّة على طول هذا المساق, الأمر الذي يجعل السيناريو العادي للأحداث غير العادية أمراً لا يستحق الدهشة. المهم أنّ الحديث بيني وبين زميل ثانٍ أخذ منحىً آخر وهو تأمل نواياها الخفيّة غير المعلنة التي كانت تراودها قبل الخروج, مع علمنا بأنها مصابة بالزهايمر هذا يعني أن النوايا لم تكن موجودة ربما وأنّ خروجها هو مجرّد خروج عاديّ إلى حديقة المنزل أو بيت الجيران, هذه النوايا المتخيَّلة المنطوية على فكرة السير حد التعب, التعب المفضي للموت, السير نحو المجهول حتى لو استحق سبرُ أغواره حياتَها, الموت بطريقة مدهشة, عاديّة لطالب طب لا يعرِف العجوز وسمع ألف قصة مثيرة أكثر من قصتها, مفزعَة لشخص يحبّها, الموت بطريقة مفاجئة أكثر من الموت بملل وهدوء وتذمّر من حولها كونها عاشت بما يكفي, بما يزيد عن كفاية ذاكرتها وتحمّلهم.
الآن, وبعد منتصف الليل, أجلس على حافة سريري, رقبتي منحنية إلى الأمام قليلاً, تؤلمني بعد أسبوع مكثّف من المرض ودوام العظام, أفكّر: أيّ معرِفة تلك التي تستحقّ الموت لأجلها؟

(2)
تسألني صديقة عن أمور عقائدية, يعني أنها أساسية في ديننا, ضرورية للغاية, كونها ضرورية يعني بالنسبة لي أمرين: البحث فيها بعناية, والتساؤل عنها باستمرار! يعجبني النزوع للنقاش إذا كان الدافع نحو المعرفة هو الاغتمام بالجهل, لأنّ المجيب لو عجز عن الإتيان بالدليل والإجابة الوافية, فإن ذلك لن يجنّب السائل البحث المتكرر حتى الوصول إلى إجابة, التي هي راحته وهدفه وغايته. لكنّ النقاش ذاته حين يكون من أجل استغلال ضعف إجابة المجيب أو جهله, وجعلها فرصة سانحة من أجل إظهار احتقاره لمعتقد المجيب والذي هو ذاته من المفترض أن يكون معتقد السائل لكنّه يشعر بالزهوّ كون دينه الذي ينكره عاجزاً, ويشعر باحتقار الذات دون إظهار ذلك كون دين غيره يبدو جميلاً وطاهراً وخلّاباً دون أن يحاول أصلاً فهم دينه أو البحث لمرة واحدة عن إجابة. هذا السؤال من هذا السائل بالتحديد هو أمر مثير للقرف, آه القرف.
(الاحترام لكل الديانات, المجد للباحثين عن الحقيقة, والشسمو لكل جاهل مريض معجب بغيره ومحتقر لذاته دون البحث الجادّ ومحاولة المعرفة)

(3)
الفترة الماضية اختفى صوتي كليّاً, الصوت هذا الذي لا يتعدّى كونه مجرّد ثرثرة أو إزعاج زائد عن الحاجة وسط فوضى الكوكب الذي لا يكفّ عن الحديث الذي لا معنى له ووسيلة للتّواصُل مع سكانه المستفزّين نوعاً ما, الصوت الذي لم أُدرِك أنّ وجوده عملية معقّدة خارجة عن النص وليست أمراً عاديّاً مفترضَ الوجود, في نفس الوقت كنّا نعمل أنا وزميلتي على حالة تعانِي منذ الولادة من مشاكل في الأعصاب الأمر الذي يؤثر على مشيها, لم تمشِ قط بطريقة سليمة, مرة بقدمين معوجّين, مرّة بمساعدة جهاز وفي النهاية على كرسي, لم تمشِ يوماً مثل كلّ من يدبّ برجليه على الأرض ماشياً مختالاً بقدرته, أفكّر وبعيداً عن شخصنة الأمور: هل تُحِسّ هذه الفتاة بفقدان ما لم تملك كما أشعر الآن بفقدان صوتي الذي اعتدت عليه؟ وماذا لو امتَلَكَتْ قدرةً "عاديّةً" على المشي بعد كل هذا –الأمر الذي يعتبر مستحيلاً طبياً- فيما أنا فقدت صوتي إلى الأبد؟
التخيّل أمر مرعب.