دعني أثرثر قليلا، لوحدي، كمجنون يحاول التعقل فلا يدري أي السبل التي تنفرد أمامه من ثرى وأيها من سراب، يخوض غمارها جميعا فيخطئ كثيرا لكنه على الأقل يصيب ولو مرة!
منذ مدة امتنعت عن الغوص في تفاصيل الأمور المصيرية -أو التي أظن أنها كذلك- والتفكير فيها بعمق لأنها ببساطة أجهدتني، استنفدت آخر رمق في ولطخت كل ما تبقى من الآمال بواقع لا يستعذب سوى المنع ولا يرتاح إلا بالكسر. لا أدري كيف يستساغ طعم الحلم حين تبكي تطلعاتك كلها دفعة واحدة على عتبة لم تتجاوزها قدميك بعد، لا أدري كيف يستساغ العيش بدونها ولا حتى كيف تبدو الأيام حين لا ندري من نحن وماذا نريد! يبدو أن الحياة أصبحت غريبة جدا أو أننا بدأنا نبصر جيدا ما يجري من الغرابة منذ الأزل.
منذ يومين، جلست حانية ظهري أكتب رسالة على هاتفي المحمول، تقدمت أختي إلي وعدلت جلستي بيديها رافعة كتفي إلى الخلف ليصبح مثل اللوح مستقيما قائلة "رح تحدبي" ، قبل أسبوع جلست حانية ظهري أقرأ كتابا ما، تقدمت أختي دون ملل وعدلت جلستي قائلة "رح تحدبي"، اليوم أقفل على نفسي باب الغرفة أحني ظهري ثم أعدله سريعا، أعرف أن ظهري سيحدودب يوما ما، لكني لا أريد أن أتذكر ذلك وقد ثقل الزمن وزاد الحمل، لا أريد أن أرى أحدا الآن.
المهم أنني أقوم بالكثير لألا أفكر، أستنزف كل ذرة تركيز مني، منذ 24 ساعة بالتمام أنا مستيقظة، لا أعرف لماذا لكني أملأ هذه الساعات بما يغنيني عن التفكير، بما يجهدني فلا أمتلك القدرة على ذلك.
أفكر، ليس بالمعنى المجهد السابق وإنما بمعنى أنني أخطط، في أن أبدأ بممارسة الرسم وتعلمه، لست فنانة بما يكفي لكني على الأقل أشعر بشيء ما حين تنحني بين يدي الخطوط وتتناثر حولها الألوان في زهو مبالغ فيه، الرسم بلا وعي بشتات لا يحده سطر ولا يعقبه لحن.
أما القهوة، فلست مغرمة بها ولا أحب التحدث عنها لكنها آخر ما وصلني من أمي في كيس ورقي يفوح برائحتها الشهية، وممتلئ حتى آخره بعد أن كنت أوصيتها بها. القهوة هي حلي المؤقت للشتات ودقائق إضافية لعمري مقتطعة من نوم لا حلم فيه ولا فائدة، وشوق لأمي، شوق للاطمئنان إليها دون وجل كما لو كنت رضيعا لا يتقن سوى اللجوء إليها!

هذا الخريف يدخل إلي كزائر طال انتظاره، غروب أيامه التي يترنح فيها المزاج متخفيا بأكمامه الطويلة ولفحته الهادئة، الدفاتر والكتب والروايات المختبئة منذ زمن، النسمة الباردة والليل الغريب، وكل الأشياء الجميلة، سواي، أنا لست أنا، رغم أن الخريف في كل عام يعيد نفسه بلا تكرار.

أظن أنني أسهب في الحديث فيما لا يفيد، لكنني لا أشعر بشيء، لا أشعر بأي شيء إطلاقا سوى أنني أود وبشدة أن أختفي برهة عن وجه هذه الأرض حتى أشتاق إليها فأعود شغوفة بحالها، أفتقد حتى أن أشتاق، أفتقد في داخلي أي شعور، وكل شعور.