2012/07/04

غربة





الغربة بقعة عَمياء من عتمَة ، ما إن تَلجها الرّوح حتى يتربّص بها التيه والظلام! فتدور وتدور دون أن تدري أنك لا تتجاوز المكان الذي بدأت منه مقدار أنملة ..
تباشر الأمور الغريبة الاصطدام بك من كل جانب ، تذهب لـ تتصفح وجوه العابرين فتلقاها باردةً جامدة لم تعتد صلفها قط ، وتتوجّس في شوارع قاتمة متلوّية على خاصرة بلادٍ متسعة عجزت أن تمنحك مساحة صغيرة دافئة تدعى حضن! أمّا الدّروس التي ستلقنك إياها هناك فهي قاسية مكلفة ، لكنّها حتماً تبقى صالحةً للتّفكر مَدى الحياة !

هذه بلاد الغربة يا سيدي : فمرحباً بك !

الحقيبة والصور وذاكرة محشوّة بأحاديثهم وأطيافهم هي العدّة التي نخرج بها من غرفنا الدافئة ولَمّتنا الحنونة وحضن العائلة وتربة أرضنا التي ما إن نتعفر بها حتى يفوح منا عَبير شَذيٌّ يشبه [الوطن] إلى تلك البلاد البعيدة التي لا نعرف عنها سوى أننا في طريقنا لها للعمل | للدراسة | نفياً وإبعاداً | أو ربما مللاً بحثاً عن أماكن أبهج !

تذهب بجُزئِكَ ويبقى بعضك يئنّ لكلّه الذي خَلّفه ، متسرَباً بين كل حبة ترب وقطرة مطر وزهرة في روضة من رياض الوطن ، فيظَلّ تائهاً بين هنا وهناك ! لا يعرف أين هو وإلى أين تركضُ به السبل ، لا يدري متى وكيف ولماذا !؟

                       جسمي معي غير أن الروح عندكم
                       فالجسم في غربة والروح في وطن
                       فليعجب الناس مني أن لي بدنا
                        لا روح فيه ولي روح بلا بدن

الغربة : غربة الرّوح والأهل والوطن ، غربة الزمان والمكان ، غربات تتكالب على الروح لتنهشها من كل جانب ، وظلمات تزيد حلكةً فوق حلكة | فـ تئن بالحنين والشوق ، وتتلهّف لـ أصواتهم وصورهم لـ ترى النّور منها ، وتبصر طريقك وسبيلك كي لا تضلّ !

             هل يعلم الصّحبُ أني بعد فرقتهم
                          أبيت أرعى نجوم اليل سهرانا
            أقضي الزمان ولا أقضي به وطراً
                          وأقطع الدهر أشواقا وأشجانا
           ولا قريب إذا أصبحت في حزنٍ
                          إن الغريب حزين حيثما كانا

وتفاصيل الغربة موجعة وملامحها مُرّة ، كـ عزفٍ صاخب مزعج ! تَضيق به لكنّه يعلّمك معنى الاحتمال ثم إنّك بعدها ربما حين تعتاده تأنس وتستمتع به ! وكـ صفعةٍ مؤلمة أنت اخترتها لنفسك وربما هي اختارتك لـ توقظك وتجعلك أقوى ..

لا يدرك معنى الغربة سوى الذي فَهم الوَطن بقلبه ولبّه وعَقِل وفرة خيره ، إن الوَطن هو المكان الوحيد الذي بإمكانك أن تقول بأنه لَك وأنّك له ! أما أي مكان آخر وإن تملّكت فيه كل الأرض يبقى ملك الغرباء ، الوَطن يطعمك من تربته ويسقيك من سمائه ويدفّئك بأناسه لأنك ابنه وفقط ..

لكن كثيراً منا أخطأ تعريف الوطن في فرادة ، ف راح يبحث له عن وَطنٍ بديل وأنّى له أن يجد !
هؤلاء من تركوا وطنهم هجرة أيقنوا بأنها تحرير لهم من قيود وهمية من نسج عقولهم الهشة ، وآمنوا بأن البلاد الغربية أفضل من بلادنا العربية ، فلبسوا أثوابهم وأخذوا عنهم كلامهم فحرّفوا لغتهم ليتقنوا كلام ألسنة البعيدين لألّا يُعرَف لهم أَصل!
فهذا وإن طالت سلامته في غربته ولم يشتق لـ وطنه ولم يعد لرشده سوف يموت فيها ولا يُذكر ، لأنّه تخلّى عن وطنه وحَرِيٌّ ببلاد الغربة ألا تتحضن اسمه !

أمّا أولئك الذين آمنوا بأوطانهم وأكرموها في قلوبهم بزوايا لا يمكن لأي بقعةٍ أن تستلها منهم ، ومالت بهم الدّنيا ووجدوا في الغربة تفريج كربة أو سعياً لرزقٍ أو طلباً لعلم أو ممن طُرِدوا من حصنهم إلى المنفى فأولئِك من عنهم نتكَلّم ..
فطالب العلم الذي يخرج إلى بلادٍ ليتلقّى تعليماً كريماً يهديه لـ وطنه هدية وساعٍ إلى رزقه ليعيل أسرته ويكرمها بحياةٍ أفضل فتُبدع وتكبر أولئِك ينتظرون فرصةً تلوحُ لهم ليعودوا لـ بلادهم فيشتمون رائحتها ويتنفسون نسيمها وكأنهم يحيون من جديد بعد اختناق الغربة ويلثمون تربة الوطن ليعيدوا لها العهد بأنّهم لم يتركوها إلا لـ يعودوا أقوى وأفضل !

إن الغريب يولدُ من جديد ، فيبدأ بتلمّس الأشياء كالطّفل ليتعرف عليها ، فتبدو غريبة لكنه يبدأ بالاعتياد عليها | الاعتياد على غربتها ! وَيُحمّل مسؤولية نفسه ودينه ودراسته وعائلته وعمله ، ليقوم بها وحده دون أن يمدّ أحد يده إليه ، هي تحدٍّ يجبُ أن تنجح فيه وإلا جُررت لدهاليز لا تعرف لها نهاية !

أما من نُفي عن وطنه ، فهي حكاية وجع آخر ! فالغربة بالاختيار صعبة أما الأصعب فهي الغربة القسرية والنّفي الاجباري ، حينها تتمنّى لو أن بلاد الله تتحول حضناً يحويك وعائلتك والهواء نسيمٌ من صبا أرضك التي أحببتها ، حيث قال نبي الله صلى الله عليه وسلم حِين أُخرج من مكة حزيناً على فراقها " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" ..

        أجارتنا من يغترب يلقى للأذى
                 نوائب تقذي عينه فيشيب
       يحن إلى أوطانه وفؤاده له
                بين أحناء الضلوع وجيب

أما غربة الرّوح ، فهي غربة دون ارتحال، ووحدة دون فراق ، وظلمة دون بعد ! غربة بين الأهل والأحباب ، وفي حضن الوطن والعائلة ، كـ تصحّر يغتال ما تبقى في الصدر من نبض وفيضان ألم يجرف معه ما تبقّى من حياة ! تشعر وكأنّك في قوقعة لا تحوي سواك ، أفكارك مستهجنة غريبة ولا أحد يفهمك ، أن تتكلم بلغة لا يفهمها من حولك وبصوت لا يسمعه أقرب من عاش معك ولك ! فتبحر في بحر أهوج لا تدرك منتهاه ، أن تعيش في العمق حين يمتهنون السطحية والتفاهة، وتبحث لك عن مكانٍ وهم لا شيء يحتويهم سوى الفراغ ! ويا لهذه الغربة ما أقساها!

فأنت وإن عاينت غربات سوى الأخيرة ، اغتالتك أحاسيس الفقد والصبابة واللهفة وجَرّتك بعنفٍ لمشاعر أليمة لكنها وإن طالت فإنها تنجلي بلقاء وتُمحى بعناق ، أما غربة الروح فهي صدع عميق في القلب ووجعٌ داخلي لا يعرفه سوى صاحبه !

لكن الغربة وإن كانت قاسية إلا أنها مدرسة ، تصنع الرّجال ! تنبّهك للأشياء التي تملكها ولم تكن يوماً تلتفت لها ، تلقّنك دَرساً في المسؤولية والاحتمال ، كيف تحتمل الوحدة والتعب في حين تجد الناس يلهون من حولك ، كيف تصوب نحو هدفك وكيف تصيبه ببراعة !
تعلّمك معنى الوَطن والأهل ، فتحفظ ذاك المعنى عن ظهر قلب ..

تلك هي الغربة ، حكاية موجعة بنهايةٍ أنتَ تحددها !



نور عليـان - من الأرشيف 


غير معرف يقول...

فهيا بنا نصارع أمواج الحياة . . .
لنصنع مستقبل مشرق يواكب آمالنا وتطلعاتنا . . .
رغم الألم يبقى الأمل . . .
الخلافة الاسلامية قادمة بإذن الله تعالى . . .
ولنعمل معا لسماء 2018 . . .