2014/09/01

قبلة الموت

كيف لم يخطر على بال جمعيات حقوق الإنسان بعد والتي يخطر على بالها كل شيء سوى حقوقنا أن تقاضي شركات السيارات التي تصنع شبابيك مشتركة بين شخصين، أليس حق التنفس في صباح ما هو حق إنساني سامي مشروع لإنسان لم يمض على استيقاظه سوى دقائق!

كان قد مر على وفاتي ثلاثة أيام، حين ركبت إلى جانب الشباك -غير المتاح لي فتحه- تتعلق عيوني في زرع الطريق وأحجاره، شمسه التي تحاول أن تتسلق عنوة أكواما من غيم، كانت عيناي ذابلتين إلى آخر ما تذبل فيه عينان، وابتسامة واهية تحاول شق طريقها الوعر بين ملامح وجهي التعب، عقلي يحاول حجب كل فكرة واردة من أي اتجاه ولا يفلح، تنفسي من فمي يتسارع، وأنفي المعلق في مقدمة وجهي لا يفعل شيئا، محتقن تماما.
كيف تهملنا الحياة بهذه الطريقة، تجري كما لو أن مصابها فينا ما كان وما عرفته، يشرق الصباح بجماله أو تعاسته لا فرق، تتدفق السيول البشرية لروتين حياتها دون أدنى تغيير، تضيء الإشارات الضوئية كما العادة، تكتظ الشوارع، تختنق المدن، ربما نقصت واحدا قبل أيام أو أكثر، لا بأس، هناك الملايين منه على وجه الأرض المكتظ بالحماقات!                                     

منذ يومين فقط، كانت وفاتي، والآن أخوض جدالا غامضا مقيتا لشق عباب الحياة في أي اتجاه، أمارس كل حقوقي في التعبير عما تبقى حيا في داخل هذا الجسد المتهالك، الفكرة، الصوت، الدموع، الحزن وإن استدعى الأمر العزلة والصوم عن مخالطة الأحياء فيكون. كان جدالا مشوبا بضبابية أقداري، من قال أن أقدارنا غامضة، لا ليست غامضة فقط وإنما هي أكف من ضباب تجبرنا أن نبصر ما خلفها وإن لم نفعل -وطبيعي ألا نفعل- صفعتنا على وجوهنا بكل قوة امتلكتها!
الحزن أيضا حق إنساني آخر، لكن هذا لا تدافع عنه حقوق الإنسان وإنما المستشفيات! نعم، أنا من أولئك الذين تتدهور حالتهم الصحية حين يدخلون في غمرة حزن ما. كل ما في لا يستطيع تمالك قوته أمام تدافع المرض باتجاهه إذا كنت حزينا، فيحتضنه ويرقد.

بالأمس مت، دفعة واحدة، والآن أنا على طبق من المقلوبة الشهي ولا يهمني سوى الباذنجان المقلي يملأ صحني على جانبيه!

مساء الخميس، الساعة العاشرة ليلا، كنت أقود عائدة للبيت، والدي استسلم لنومه وأمي أخبرتني بأن أفتح المذياع لئلا أنام وأنا أقود، لم تقل أنها ستنام أيضا لكني عرفت ذلك من لهجتها الناعسة، لا داعي لأخبرك كم هي القيادة ليلا على الشوارع السريعة باتجاه القدس فتنة، فتنة بكل ما تحمل الكلمة من معنى وبكل تفاصيلها، لم أرفع رجلي عن دواسة البنزين، العداد يتسارع، وأنا في غمرة الشعور الجميل، أنظر للعداد، أسهو عن الحائط الذي يمتد بجانبي، أنتبه أن كف الموت امتدت إلي أقرب من أي وقت مضى، أحرك المقود سريعا وأهرب، أنا أعلم أن والدي بالتحديد لن يقرأ ما أكتب لأنني حينها كتمت ما حدث رغم أن صوت قلبي سمعته بأذني يصطك بجدار صدري، ونوم أبي كان أعمق من أن يلحظ، ومعرفته بذلك قد يمنعني من القيادة أبد العمر.
رأيت نفسي مسجاة على الأرض، على طريق سريع، أنزف بلا مبالاة، لكنني الآن بعد ثلاثة أيام من وفاتي ما زلت أكتب!

..